
عندما انعقدت القمة الأمريكية في 2018، بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره فلاديمير بوتين، كانت تتزامن مع حدث كروي هام تحتضنه موسكو والمدن الروسية الأخرى، وهو كأس العالم للمنتخبات، والذي كان بمثابة فرصة نادرة للروس، لإثبات وجودهم على الخريطة العالمية، في لحظة سياسية ربما يمكن وصفها بـ”الخانقة”، خاصة وأنها جاءت في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم، والذي أثار مخاوف الغرب الأوروبي، جراء احتمالات مزيد من التوسع، الذي يهدد مصالح القارة العجوز، ليكون الحدث الكروي بمثابة فرصة هامة، لتقدم روسيا نفسها للعالم، من بوابة “الساحرة المستديرة”، باعتبارها مستعدة للانفتاح على الغرب، وهو الأمر الذي اتخذ مسارا سياسيا موازيا تجلى في القمة المذكورة بين الرئيسين الروسي والأمريكي، والتي تزامنت مع الحدث الكروي العالمي.
الفرصة التي قدمتها كرة القدم لروسيا، عبر استضافة مونديال المنتخبات، تمثل انعكاسا مهما للدور الذي يمكن أن تلعبه الرياضة، لتحقيق أكبر قدر من التقارب بين الدول، سواء على المسار السياسي، حيث شهدت العاصمة موسكو حضورا دبلوماسيا مكثفا من زعماء العالم، لمتابعة مباريات فريقهم في البطولة، ربما أبرزهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي حرص على حضور مباراة نصف النهائي بين فرنسا وبلجيكا، أو رئيسة كرواتيا كوليندا كيتاروفيتش، والتي خطفت الأضواء بارتدائها زي منتخب بلادها خلال مباريات البطولة، والذي تمكن من الوصول إلى المباراة النهائية، وهو ما قدم نموذجا حيا للكيفية التي يمكن بها استثمار الأحداث الرياضية الكبرى، لتنحية خلافات السياسة أو على الأقل تجميدها مؤقتا، مما يفتح المجال أمام حوار مباشر، من شأنه تعزيز العلاقة نحو مناح أفضل، ناهيك عن التقارب الكبير بين الشعوب، في إطار استضافة ملايين البشر من كافة دول العالم، لتشجيع منتخبات بلادهم.
ومع انطلاقة الولاية الثانية للرئيس ترامب، تلوح الفرصة مجددا، ولكن هذه المرة من “أرض الحرية”، من الولايات المتحدة نفسها، والتي طالما روجت لنفسها باعتبارها البوتقة التي تذوب فيها الأعراق والأجناس والثقافات، لتستضيف على أرضها مونديال الأندية، ومن بعده كأس العالم للمنتخبات في العام المقبل، لتجد “كرة القدم” نفسها أمام سياسات أكثر انغلاقا، خاصة عندما استبق الرئيس الأمريكي البطولة الأكبر على مستوى أندية العالم، في نسختها الأولى، بقرار يحظر سفر المواطنين من دول بعينها، ناهيك عن إجراءات أخرى، استهل بها ولايته، دارت في معظمها حول إغلاق الحدود، تقييد حركة المهاجرين، وهي أمور تحمل في طياتها حقا سياديا للدولة، باعتبارها صاحبة الحق الأصيل في حماية أمنها، في مواجهة ما قد تراه تهديدا لها، ولكن تطرح تساؤلات حول مستقبل اللعبة نفسها، في ضوء ارتباطها بحالة العولمة التي هيمنت على العالم، منذ الأربعينات من القرن الماضي.
فكرة القدم ليست مجرد لعبة رياضية، بل هي أحد أبرز رموز العولمة الحديثة، التي تعبر عبرها القارات والثقافات وتنسج شبكة معقدة من العلاقات بين الشعوب والدول، فمنذ منتصف القرن العشرين، تحولت كرة القدم إلى صناعة عالمية ضخمة تجمع بين اللاعبين من مختلف الجنسيات، والفرق التي تتنقل عبر الحدود، والبطولات التي تجذب جماهير من كل أنحاء العالم، مما خلق هوية كونية مشتركة وتبادل ثقافي مستمر، ولكن، في ذات الوقت، تعتمد كرة القدم على حرية الحركة والتنقل، سواء للاعبين أو الجماهير، مما يجعلها عرضة بشكل مباشر لأي سياسات تقيد الحدود أو تفرض حواجز أمام هذه الحركات، فتتأثر شرعيتها وقيمتها عندما تتقاطع مع موجات الانغلاق السياسي والاقتصادي، وهو ما يترجم التأثير الكبير الذي لاحق تلك الصناعة، خلال أزمة وباء كورونا، والذي ترتب عليه حرية للتنقل، وإغلاق للحدود، وبالتالي مباريات بلا جمهور.
ولعل الحديث عن استضافة أمريكا لمونديال الأندية، ومن بعده كأس العالم للمنتخبات في العام المقبل، بمثابة فرصة مهمة لواشنطن، لتعزيز دورها في مرحلة تبدو ضبابية، جراء التوتر الكبير في علاقتها مع الغرب الأوروبي، على المستوى الرسمي، على خلفية الخلاف حول التعريفات الجمركية، ناهيك عن عجز الإدارة الحالية في تحقيق اختراقات كبيرة في العديد من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، مرورا بالأوضاع المتردية في غزة، وحتى الملف النووي الإيراني، لتبقى واشنطن في حاجة إلى حدث “خارج عن المألوف” تقدم من خلاله رسالة سلام إلى عالم متوتر، يعاني من الارتباك القابل إلى الانفجار في أي لحظة، لتكون كرة القدم في هذه اللحظة بمثابة الوسيلة الأنجع التي يمكنها تقديم هذه الرسالة، ليس فقط إلى الحكومات، وإنما لشعوبهم، باعتبارها اللعبة الأكثر شعبية في العالم، ولكن يبدو الأمر بحاجة إلى مزيد من الجدية، فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية، سواء على مسار القضايا المذكورة، أو فيما يتعلق بالداخل، عبر الكيفية التي سوف تستقبل بها واشنطن ضيوفها القادمين من كل أنحاء العالم، لتشجيع فرقها أو منتخباتها.
قرار حظر السفر الذي فرضته الإدارة الأمريكية، والذي يشمل مواطني عدة دول، ومن قبل قرارات الحمائية التجارية التي أعلنتها واشنطن في الأسابيع الماضية، يخلق واقعًا عمليًا يؤثر على كيفية استثمار الولايات المتحدة لمونديال الأندية وكأس العالم للمنتخبات كمنصات دبلوماسية ورياضية، حيث يمثل رسالة من شأنها تعزيز شعار “أمريكا أولا”، وهو ما يطرح تساؤلا حول ما إذا كانت “تخليا طوعيا” عن القيادة العالمية، والتي استلهمت جذورها من مبادئ الانفتاح والعولمة والحرية، وهي المبادئ التي شكلت ركيزة أساسية في شرعية كرة القدم خاصة فيما يتعلق بأحداثها الكبرى وهو ما يعكس تحديًا أمام منظمي البطولة، وعلى رأسهم الفيفا، في كيفية ضمان استضافة حدث يعبّر حقًا عن التنوع والشمولية التي تعزز من قوة اللعبة وتوسع من جمهورها، خاصة وأنها ليست مجرد لعبة، ولكنها صناعة، ستتأثر بكل تأكيد بكافة المستجدات الأخرى على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، التي تميل في مجملها نحو المزيد من الإغلاق والانغلاق.
هذه المعطيات تفتح تساؤلات مهمة حول مستقبل كرة القدم في ظل تصاعد سياسات الانغلاق حول العالم، وكيف يمكن للرياضة أن تحافظ على دورها في جمع الشعوب، وسط ضغوط سياسية متزايدة تؤثر على حرية التنقل والتواصل.
وهنا يمكننا القول بأن كرة القدم هي في واقع الأمر أكثر من مجرد لعبة، هي مرآة تعكس تحولات العالم وتحدياته، وبينما تستعد الولايات المتحدة لاستضافة أكبر الأحداث الكروية، يظل السؤال قائمًا: هل ستنجح الرياضة في تجاوز العقبات السياسية والانغلاق، لتؤكد شرعيتها كجسر يربط بين الشعوب؟ أم أن واقع السياسات المتغيرة سيعيد تشكيل ملامح هذه اللعبة العالمية؟ المستقبل يحمل الكثير من الدلالات، وربما يكون مونديال الأندية وكأس العالم القادم اختبارًا حقيقيًا لهذا التوازن الدقيق بين الرياضة والسياسة.
اليوم السابع _ بيشوى رمزى