
في ظل التحديات المتزايدة والضغوط الدولية المتصاعدة التي تواجهها منطقتنا وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يصبح من الضروري التفكير بعمق في تبني استراتيجية أمنية جديدة تضمن الحفاظ على السيادة والأمن الوطني. الفكرة هنا ليست دعوة للتحول الكلي إلى نموذج كوريا الشمالية، إنما دعوة لضرورة تبني بعض الجوانب الأمنية لهذا النموذج الكوري الذي مكن لهم الحفاظ على أمنهم الاستراتيجي في مواجهة التحديات الخارجية.
إن طرحنا هذا حول أهمية الحفاظ على السيادة الأمنية ضد الاختراقات تكمن في أننا نعتبر الجمهورية الإسلامية اليوم هي “الحصن الأخير” الذي يحافظ على التوازن في منطقتنا الإسلامية ضد ضغوط الولايات المتحدة ودول الغرب وإسرائيل.
إن الحفاظ على هذا التوازن يتطلب القدرة على مقاومة الاختراقات الأمنية والتدخلات الخارجية بصرامة، لأننا نعتقد بأن هذه الاختراقات الأمنية تسللت إلينا من خلال محاولتنا الالتزام المبالغ به بالمعايير الغربية للديمقراطية وحقوق الانسان، والتي لن تجلب لنا سوى مزيدا من الاختراقات ومزيدا من الضغوط.. فهذه القوى العظمى لن ترضى عنا مهما حاولنا التكيف مع معاييرها، فهي لا تهتم الا بتحقيق مصالحها وحماية إسرائيل.
اصلا الغرب ذاته يظهر ازدواجية واضحة في تعامله مع قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية عندما يتعرض أمنهم القومي او تتعرض مصالحهم للخطر دون اي خجل. ولنا في تصريح ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني مثالا واضحا على هذه الإزدواجية حيث قال (لا تسألني عن حقوق الإنسان عندما يتعرض أمن بريطانيا للخطر). كذلك الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق جاء بدون موافقة من مجلس الأمن ودون اي اكتراث للقانون الدولي، ايضا قرارات فرنسا بمنع الحجاب جاءت متناقضة مع كل مبادئها حول الحرية وحقوق الانسان بمجرد أن شعرت بأن هويتها الثقافية تتعرض للتهديد بعد انتشار الثقافة الإسلامية هناك، كل ذلك ما هو إلا أمثلة بسيطة عن كيفية تنصل الغرب من مبادئه عندما تتعارض مع أمنه القومي ومصالحه العليا.
بل حتى بالعودة الى أشهر النظريات السياسية الغربية واشهر فلاسفتها سنجد أنهم يشيرون بوضوح أن الديمقراطية والتطبيق المبالغ به لحقوق الانسان ليست هي الحل الأمثل في حالات التهديد الوجودي والأمني للدول. فهذا “ميكافيلي” في نظريته “المستبد العادل” يعتبر أن وجود قيادة قوية وعادلة يثق بها الشعب حتى وان كانت “مستبدة” هي الحل المثالي (المؤقت) لضمان اجتياز الأمة للأزمات الوجودية بسلام، وذلك بدلا من المبالغة في تطبيق مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان المثالية التي قد لا تكون بأهمية حفظ الأمن للمجتمع من اجل الوصول الى بر الأمان.
من المهم التأكيد على أن الدعوة هنا لا تتبنى الدكتاتورية بأي شكل من الأشكال، فالإسلام يحرم الظلم والطغيان والتسلط بشكل قاطع. لكن المطلوب هو فهم الواقع بعمق وبصورته الحقيقة حيث اننا نمر بمرحلة وجودية وخطيرة للغاية تتطلب اجراءات جراحية حاسمة، ويجب ان نقتنع بأن بعض التنازلات الصغيرة في بعض قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان قد تكون ضرورية للحفاظ على الجزء الأكبر من حقوق الإنسان والعيش بسلام، وهذا بالضبط ما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية ومع قواعد المنطق العقلي السليم، حيث ان التضحية بالقليل من اجل الحفاظ على الكثير هو عين الصواب.
الوضع الأمني في إيران يتطلب أن تتم مراجعة السياسات الراهنة به لضمان أن يتم تقويم الاختراقات ومعالجتها بفعالية قبل أن يتحول الوضع إلى ما لا يُحمد عقباه “لا سمح الله تعالى”.
إن كوريا الشمالية، رغم كل الانتقادات لها، لكنها تمكنت من الحفاظ على مجتمعها وبيئتها الأمنية بشكل صلب وغير قابل للاختراق، مما أثار حيرة أجهزة الاستخبارات العالمية الغربية التي تتربص بها السوء كله.
لذا يمكننا النظر إلى بعض الجوانب الاستراتيجية الأمنية لكوريا الشمالية كنموذج (مؤقت) للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والوطني في وجه التحديات الوجودية الحالية التي تمارسها علينا قوى الاستكبار العالمي.
د. معن بن علي الدويش الجربا
باحث في الشأن العربي والإسلامي