
يعكس الهجوم الأخير على حقل كورمور الغازي قرب السليمانية تطوراً نوعياً في استهداف البنى التحتية للطاقة في العراق، ويعيد فتح ملف متكرر منذ سنوات يرتبط بتشابك عوامل الطاقة والسياسة والأمن في لحظة حساسة تعيشها البلاد. الحقل، الذي تديره شركة “دانة غاز” الإماراتية، يعد واحداً من أهم مصادر الغاز في إقليم كردستان، وتعتمد عليه شبكة الكهرباء في السليمانية وأربيل وكركوك ونينوى وصلاح الدين، ما يعني أن أي تعطّل فيه ينعكس مباشرة على استقرار الإمدادات وعلى ثقة الشركات الدولية العاملة في العراق.
وفق البيانات الرسمية، نُفّذ الهجوم باستخدام مسيّرات أو صواريخ دقيقة أصابت خزانات وتجهيزات حساسة داخل الموقع، وأدى ذلك إلى توقف الضخ وانقطاع واسع للكهرباء قبل أن تنجح فرق الإطفاء في احتواء الحريق. وعلى أثر ذلك، شكّلت بغداد وأربيل لجنة تحقيق مشتركة، فيما زار وزراء ومسؤولون الموقع لإجراء تقييم مباشر للأضرار. تزامن ذلك مع مواقف دولية، أبرزها الموقف الأمريكي الذي وصف الهجوم بأنه اعتداء يستهدف منشآت حيوية ويستوجب تحركاً حكومياً واضحاً.
في حديث،يقدم النائب عارف الحمامي موقفاً مخالفاً لبعض الاتهامات المبكرة التي وجهتها أطراف كردية. يقول إن التحليل الأولي “يشير إلى استخدام مسيّرات ذات قدرات عالية على الاستطلاع والتنفيذ”، وإن هذه الإمكانات “لا تمتلكها جماعات محلية محدودة الموارد”، مشدداً على أن “البعض حاول منذ اللحظة الأولى اتهام الحشد أو الفصائل، رغم أن المعطيات الفنية لا تدعم ذلك”، ويرى أن توقيت الهجوم يتزامن مع لحظة سياسية حساسة تتعلق ببداية مفاوضات تشكيل الحكومة، وهو ما يجعل “خلط الأوراق” هدفاً محتملاً لجهات خارجية لديها مصلحة في التأثير على هذه العملية.
وعلى الجانب المقابل، تتبنى أطراف كردية وإعلام دولي رواية تربط الهجوم بجماعات مسلحة، وتشير إلى أن هجمات مماثلة استهدفت الحقل خلال السنوات الماضية في سياق توترات متكررة بين واشنطن وطهران، وفي لحظات كان فيها إقليم كردستان يتخذ خطوات تتعلق بملف النفط والغاز لا تحظى بقبول من أطراف إقليمية. هذه الجهات ترى أن نمط الهجمات المتكررة ينسجم مع رسائل الضغط السياسي التي تُرسل عادة عبر ضرب منشآت الطاقة.
إلى جانب ذلك، توجد قراءة ثالثة داخل المشهد الكردي تربط بين الهجمات المتكررة والخلافات الداخلية بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم بشأن إدارة ملف الطاقة وتقاسم عائداته وصلاحيات الأمن في مواقع استراتيجية مثل كورمور، لكن هذه القراءة لا تستند حتى الآن إلى أدلة مباشرة، وتعتمد أكثر على طبيعة البيئة السياسية داخل الإقليم وما يرافقها من تنافس على مراكز النفوذ والقرار.
المعطيات التاريخية تؤكد أن كورمور تعرض لأكثر من تسع هجمات منذ عام 2022، وكلها نُفّذت بطرق مشابهة، وفي أوقات كانت تشهد توترات سياسية على مستويات متعددة. ورغم تشكيل لجان تحقيق في كل مرة، لم تُعلن أي جهة مسؤوليتها بشكل مباشر، ولم تخرج التحقيقات السابقة بخلاصات قاطعة، ما يجعل هذا النوع من الاستهداف عاملاً ثابتاً يتكرر كلما تغيرت موازين القوى أو احتدمت الملفات السياسية داخل العراق أو في الإقليم.
عند تحليل الأطراف المستفيدة، يظهر أن الجهات التي تتهمها بعض الأطراف الكردية قد تسعى إلى الضغط على حكومة الإقليم وإرباك بيئة الاستثمار وإرسال رسائل سياسية تتعلق بالدور الأمريكي أو بالإمارات بصفتها المستثمر الأكبر في المشروع. وفي المقابل، إذا كانت رواية الحمامي دقيقة بشأن تورط جهات خارجية تمتلك قدرات تقنية كبيرة، فإن ذلك يفتح الباب أمام تفسير مختلف يرتبط بصراع إقليمي ودولي أوسع على ملف الغاز، خصوصاً مع محاولات بعض الدول تعزيز نفوذها في سوق الطاقة أو منع بروز منافسين جدد، وهو ما يجعل ضرب منشأة بهذا الحجم وسيلة للتأثير على النظام السياسي والاقتصادي في العراق.
في الوقت ذاته، تطرح بعض التحليلات احتمالاً آخر يتمثل في وجود أطراف داخلية تسعى إلى إظهار عجز الدولة عن حماية البنى التحتية الحيوية، بهدف استثمار ذلك في مفاوضات تشكيل الحكومة أو الحصول على مكاسب أمنية وسياسية. هذا الاحتمال يزداد وزناً في بيئة سياسية منقسمة، حيث تتحول الهجمات على منشآت اقتصادية إلى أدوات ضغط غير مباشرة.
على صعيد المواقف الخارجية، جاء الموقف الأمريكي الأكثر وضوحاً وصلابة. فقد وصفت السفارة الأمريكية الهجوم بأنه “عمل إرهابي” ودعت الحكومة العراقية إلى اتخاذ خطوات مباشرة للمحاسبة، بينما تحدث المبعوث الأمريكي مارك سافايا عن “مجاميع تعمل خارج إطار الدولة” وأكد أن الولايات المتحدة ستدعم أي خطوات لفرض الاستقرار. هذه التصريحات تربط الهجوم مباشرة بملف السلاح غير الرسمي، وبالنقاش المستمر داخل واشنطن حول شكل ومستقبل الدعم الأمني للعراق.
أما الحكومة الاتحادية، فهي تسعى إلى تقديم نفسها بوصفها قادرة على حماية البنى التحتية، وتدرك أن أي ضعف في هذا الملف سيؤثر على علاقتها بشركات الاستثمار وعلى مكانتها أمام الولايات المتحدة. في حين تحاول حكومة الإقليم الحد من أثر الهجوم على سمعة إقليم كردستان كبيئة استثمارية، وتعمل على إعادة تشغيل الحقل في أسرع وقت ممكن. ورغم توحيد الخطاب الرسمي في الدعوة إلى تحقيق مشترك، تبقى حساسية الملف قائمة داخل الإقليم وبين الإقليم والمركز.
التحقيقات الجارية تمثل نقطة مفصلية، لكن التجارب السابقة لا تعطي مؤشرات قوية على إمكانية الوصول إلى تحديد قاطع للجهة المنفذة. في أغلب الهجمات الماضية، انتهت اللجان إلى نتائج عامة تتحدث عن “جهات تهدف إلى زعزعة الاستقرار” دون تسمية مباشرة. هذا التعقيد يعكس طبيعة البيئة الأمنية والسياسية في العراق، حيث تتداخل مصالح أطراف محلية وإقليمية ودولية داخل ملف واحد.
في المحصلة، يتجاوز الهجوم على كورمور كونه عملاً تخريبياً ضد منشأة اقتصادية، إذ يشكل اختباراً لقدرة الدولة على حماية قطاع الطاقة في لحظة سياسية حرجة، ومؤشراً على عمق الصراعات التي تتقاطع فوق ملف الغاز، من بغداد إلى أربيل، ومن طهران إلى واشنطن. ومع تعدد الروايات واختلاف المستفيدين المحتملين، يبقى تحديد الجهة المسؤولة مرتبطاً بنتائج تحقيقات قد لا تكون حاسمة، وبسياق سياسي متغير يعيد تشكيل معادلات القوة في العراق والمنطقة.




